«جران توريزمو» يمشي في الاتجاه المعاكس لهواجسنا



مارلين سلوم

شغلنا العالم الافتراضي كثيراً وصار الجزء الحيوي في حياتنا الذي لا يمكن الاستغناء عنه، خفنا منه، توجسنا، شعرنا بأنه يسرق أولادنا ويخطفهم من العالم الواقعي إلى عوالم بعيدة ليست كلها من الخيال، بل الأخطر أنها تجعل من هذا «الوهم» والافتراض بالوناً يعيش في داخله الأطفال والشباب ويحلقون معه عالياً ويبتعدون عن التواصل الفعلي معنا ومع المجتمع الذي يعيشون وسطه.. هذه ليست مجرد كلمات نختصر بها حال معظم أولياء الأمور في زمننا هذا وخوفهم على أبنائهم من العالم الافتراضي، بل هي كلمات تختصر رسالة فيلم «جران توريزمو» الذي حقق نجاحاً مميزاً منذ بداية انطلاق عرضه في الصالات العالمية قبل نحو أسبوع، والذي يمشي بالاتجاه المعاكس لهواجسنا، ليقدم قصة حقيقية عن أول شاب ينتقل من عالم الألعاب الافتراضية وينقلها معه إلى الواقع في تجربة مميزة وبفيلم ناجح يستحق المشاهدة.

كالعادة، حين تعلم أنك ستشاهد فيلماً مأخوذاً عن قصة حقيقية، تسرع إلى «غوغل» للبحث عن صاحب القصة ولماذا صنعوا فيلماً عنه وما إذا كان لا يزال على قيد الحياة أم لا؟.. وحين تعلم أنها قصة شاب من رواد سباق السيارات، تحسب فوراً أنه إما توفي بحادث مؤلم وإما تعرض لحادث تركه مقعداً أو تسبب في صدمة أبعدته عن عالم السيارات.. وبداخلك يقين أن هناك دراما في ثنايا القصة؛ لكن فيلم «جران توريزمو» لا يعنيه أي من هذه الكليشيهات ولا يعتمد على المأساة ليبني أحداثه أو لتكون سبباً مقنعاً لصناعة فيلم يجذب الجمهور، فالعمود الفقري لهذا العمل ونقطة تميزه الأولى أنه يحكي قصة أول شاب عشق لعبة سباق السيارات على «البلاي ستايشن» إلى درجة التعلق بها وبعالم السيارات وحفظه كل تفصيلة ومعلومة عن ميكانيك السيارات وحلبة السباق وأي حيلة يمكن اتباعها للفوز في السباق.. قصة الشاب البريطاني يان ماردنبورو (أداه بامتياز آرتشي ماديكوي)، المراهق الذي تحول من لاعب ألعاب إلكترونية إلى متسابق سيارات حقيقي، واختارته شركة نيسان ليمثلها في السباقات الدولية والعالمية، وإذا كانت القصة تدور كلها في عالم المغامرات والمنافسات، فصناعة فيلم من هذا النوع تعتبر مغامرة إلى حد ما، لأن بطل القصة ما زال شاباً (يبلغ عامه ال 32 خلال هذا الشهر)، ما زال على قيد الحياة ويشارك في السباقات، على عكس ما يحصل عادة حيث تتناول الأفلام سير شخصيات مضى على شهرتها زمن طويل أو مضى على رحيلها وقت أيضاً.

إنها قصة حقيقية أساسها لعبة «جران توريزم» (أو توريزمو) التي أنشئت عام 1997 في اليابان لتكون أكثر المواقع محاكاة للواقع، لعبة استطاعت أن تجذب الكثير من الشباب حول العالم، وفي ويلز البريطانية نرى المراهق يان ماردنبورو يرفض الخروج مع أبيه وأخيه الأكبر منه للتدرب على كرة القدم أو حتى لعب الرياضة كما يتمنى والده (دجيمون هونسو)، يرفض مغادرة غرفته ليقضي ساعات أمام لعبته المفضلة «جران توريزم». طبعاً يكثر الخلاف بينه وبين أبيه بسبب هوسه بعالم السيارات والعالم الافتراضي «الفارغ» على حد قول والده الذي يعتبر كل ما يفعله يان لا قيمة له وسيؤدي إلى ضياعه.. في هذه الأثناء يسافر خبير التسويق الاستثنائي داني مور (أورلاندو بلوم) إلى شركة نيسان في طوكيو لإقناع إدارتها باستغلال اللعبة وتحويلها إلى مسابقة حقيقية، من يفوز فيها يحصل على فرصة التدرب في الشركة، ويتم اختيار أفضل سبعة لاعبين من مختلف الدول، وهكذا يشارك يان ويفوز من بريطانيا ويسافر ليلتحق بباقي اللاعبين، ويتم تدريبهم لينتقلوا من عالم الخيال والافتراض إلى الواقع ليصبحوا متسابقين حقيقيين لفريق نيسان؛ كذلك يتعاون مور مع رئيس الطاقم المخضرم والسائق المحترف السابق جاك سالتر (ديفيد هاربور) ليتولى تدريب المتسابقين.

تبدأ المغامرات مع انتقال اللاعبين إلى الحلبة الحقيقية، والتي يفوز في نهايتها يان ليكون هو الممثل الأول لشركة نيسان، وتنقلب حياته ليحقق حلم طفولته بقيادة السيارات السريعة. توتر ومنافسات وأحقاد وأحداث تتوالى في الفيلم إنما ليس بنفس تسلسلها في حياة البطل الحقيقي يان، فهو دخل مسابقة نيسان وفاز فيها لأول مرة عام 2011 وكان عمره 20 عاماً، وعام 2013 فاز بسباق «لومان» بفرنسا والذي يعتبر الأصعب في العالم، وعام 2015 تعرض لحادث خلال سباق في ألمانيا أدى إلى إصابته بجروح ووفاة أحد المشاهدين خارج الحلبة، وهو المشهد الذي نجح المخرج بتقديمه بشكل يفاجئ الجمهور ويصدمه؛ أما في الفيلم ولأسباب درامية، وقع الحادث قبل «لومان» كنوع من التشويق وبهارات للدراما، فبدا يان خائفاً رافضاً العودة إلى الحلبة بل مرعوباً من المشاركة في سباق لومان، ما أعطى لفوزه نكهة الانتصار المستحق وكسب تعاطف الجمهور بلا شك، كما أدخل صناع الفيلم المزيد من البهارات بخلق علاقة حب بين البطل ورفيقة طفولته أودري (مايفي كورتيه ليلي)، بينما في الواقع هي مجرد صديقة تقف بجانبه ويستشيرها منذ الطفولة وحتى اليوم.

مخرج موهوب

المخرج نيل بلومكامب بطل في هذا الفيلم، تفوق على المؤلفين وكتاب السيناريو جايسون هول وزاك بايلين وأليكس تسي، وكان من الضروري أن يتسلم دفة القيادة مخرج متمكن من عمله، موهوب في جعل الشاشة حلبة سباق تخطف أنفاسنا، فنان في التصوير من زوايا مختلفة فتشعر بأنك تقود السيارة حيناً وتشاهد المتسابقين والحلبة كلها من فوق ثم تتمايل مع المنعطفات وتتسارع نبضات القلب مع زيادة سرعة السيارة ويتحول قلب السيارة ومحركها وكأنه فرقة موسيقية تعزف وقائدها لاعب درامز يسرّع من الإيقاع حتى الذروة. ولعل من أجمل مشاهد الفيلم تلك التي دمج فيها بلومكامب بين الخيال والواقع، فحين كان المراهق يان يلعب في غرفته لعبته المفضلة سباق السيارات، كان يتخيل نفسه يقود سيارة حقيقية، فيجسد هذا الخيال المخرج برسم افتراضي يتشكل أمامنا على الشاشة، وعندما انتقل فعلياً الشاب من هاو إلى محترف يمثل شركة نيسان في السباقات، جعله المخرج يقود السيارة متخيلاً هذه المرة أنه في غرفته خلف مقوده الافتراضي يلعب بلاي ستايشن ليس أكثر، كي يخفف من وطأة توتره وخوفه، في مشهد عكسي رائع.

شخصيات متألقة

كل الشخصيات الرئيسية تألقت، آرتشي ماديكوي مفعم بالحيوية، يشبه إلى حد بعيد يان الحقيقي، مناسب تماماً للدور شكلاً وأداء، بلوم مقنع بشخصية الخبير الإداري الناجح، وهاربور يلعب على وتري العصبية والحدة في شخصيته واللين الذي لا يظهر إلا في الأزمات.. أما الخلاصة التي يحملها إليك الفيلم، فتتجسد في مشهد وصول والد يان ليكون بجانب ابنه في سباق لومان ولأول مرة، حيث يعترف له بأنه أخطأ حين لم يسمعه ولم يشجعه لتنمية موهبته وتحقيق حلمه، بل فكر بشكل تقليدي وبالاتجاه نحو هوايات رياضية تقليدية وتخصصات ووظائف أيضاً تقليدية، بل ندم لأنه أراد معاقبة ابنه بسبب شدة تعلقه بلعبة السيارات والعالم الافتراضي.. نصيحة تشبه السيف بحدّيه، مفيدة لناحية الاستماع إلى رغبات الأبناء وأحلامهم ومواهبهم، ومضرة لناحية الاقتناع بأن كل ما هو افتراضي يمكن أن يتحول إلى حقيقة نافعة.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top