«وش في وش».. سينما السهل الممتنع



مارلين سلوم

أكثر ما يتم تداوله عن أي فيلم عربي جديد في الصالات، نسبة الإيرادات، وما يحققه من نجاح وعائدات مقارنة بباقي الأفلام العربية المنافسة له في الفترة نفسها، ورغم أن تلك الأرقام تكون مؤشراً مباشراً لمدى نجاح العمل، إلا أنها لا تفلح دائماً في منحه ما يستحقه من تقييم، إذا اعتمدنا على معدل الإيرادات وإقبال الجمهور فقط؛ صحيح أن الفيلم الذي سنتناوله ويعرض حالياً في الصالات يلقى إقبالاً كبيراً ونسبة إيرادات عالية، لكن الأفضل ألا نقيّمه انطلاقاً من هذا «النجاح» كي لا نظلمه، ونقلل من قيمته الفنية ومضمونه العميق، ويكفي أن نقول أن «وش في وش» تجربة أكثر من رائعة، وعمل متكامل يجسد السهل الممتنع ويترك بصمة مميزة جداً بكل ما فيه.

سينما مختلفة، من المشهد الأول وحتى اللقطة الأخيرة تمضي نحو ساعتين جالساً في مكانك، لكنك مستمتع، لا تشعر بمرور الوقت، ولا بالملل، ولا بسأمك من تكرار أي مشهد، أو من حشو لا لزوم له؛ بل يفاجئك المؤلف والمخرج وليد الحلفاوي، بتقديمه عمله السينمائي بأسلوب مسرحي، يتحد فيه الزمان والمكان فنعيش تفاصيل خلاف بين الزوجين، داليا (أمينة خليل)، وشريف (محمد ممدوح)، يبدو تقليدياً، كأي خلاف ينشب بين رجل وزوجته، لكنه يتطور وتتسع دائرته رغماً عنهما، فتدخل أطراف أخرى على الخط، عائلة داليا: والدتها نانا (أنوشكا) التي يصادف سماعها أصل الخلاف لحظة اتصالها بابنتها ونسيان داليا الخط مفتوحاً، والتي جاءت «للدفاع عن ابنتها»، مصطحبة معها زوجها والد داليا مهاب (سامي مغاوري)، وشقيقها سليم (أحمد خالد صالح)؛ في المقابل يستدعي والد داليا والدي شريف لإنهاء المشكلة بشكل نهائي هذه المرة، فيحضر والده (بيومي فؤاد) ووالدته زينب (سلوى محمد علي)، ويصادف وجود سلمى (أسماء جلال) صديقة داليا التي مرت لتلقي السلام فقط، ويصل وائل (محمد شاهين) بناء على اتصال تلقاه من صديقه شريف يدعوه فيه للوقوف بجانبه والعمل على تهدئة الأمور، لكن وصول وائل يتصادف أيضاً مع وصول الصديق الثالث مجدي (خالد كمال) الذي ينتظر أسفل المبنى مع صديقين آخرين حتى تهدأ الأمور، ويقترح عليهم وائل أن يصعد بنفسه ليحل المشكلة ويصطحب معه شريف كي يخرجوا جميعاً باعتبارها مجرد خلاف «روتيني» بين الزوجين.. هكذا يجتمع كل هؤلاء في المنزل، وينضم إليهم سائق والد ووالدة داليا كَحّول (محمود الليثي) الذي يجلب الدواء بناء على طلبهم، ثم يغلق باب المنزل الحديدي بعنف يجعل فتحه مستحيلاً، ولا يستطيع أي منهم الخروج.

ليلة واحدة

بذكاء شديد جمع وليد الحلفاوي أبطاله في مكان واحد، وجعل القصة كلها تدور في ليلة واحدة، وتمتد حتى ساعات الصباح الأولى، نفس الديكور والشخصيات لا تبدل ملابسها، والصراع والحوار والأحداث كلها، بحلوها ومرها، وتبدل المشاعر والصراع الداخلي والخارجي.. في حلبة واحدة، من هنا تشعر بأن المخرج جعل من الشاشة مسرحاً، تماماً كأنك تشاهد مسرحية الكل فيها بطل، وكل شخصية تنال حقها من الكلام والحوار والتألق بالأداء فتكون في وقت ما هي المحور والكل يتفاعل معها، حتى الخادمة شيماء (دنيا سامي)، تؤدي مشهداً كاملاً تحكي فيه مأساتها وتعبّر عن مشاعرها وتكون خلاله البطلة..

نعم، الكل بطل وليس محمد ممدوح وأمينة خليل فقط، وكل ممثل جاء مناسباً تماماً للشخصية، أنوشكا جسدت بكثير من الرقي دور السيدة المتعجرفة المتحكمة في زوجها وابنها وابنتها، حتى اسمها إنعام حولته إلى نانا ليليق بعنجهيتها، وسامي مغاوري مناسب جداً لدور زوجها المطيع الذي ارتضى أن يكون بلا شخصية ليستطيع العيش معها بسلام، ومشهد تمرده عليها ولحظة طلاقه من نانا هو المشهد الذروة الذي تألقت فيه أنوشكا.. لذا نقول إن النجاح الأول يُنسب إلى وليد الحلفاوي الذي كتب العمل ليجسد نماذج مختلفة من الخلافات الزوجية، وليبيّن أن اتساع رقعة الخلافات يكون سببه تدخلات الأطراف الخارجية سواء أهل الطرفين أو الأصدقاء، وحتى السوشيال ميديا القادرة على جعل الوفاق بين الزوجين مستحيلاً.. أحمد خالد صالح جيد بدور الشاب المتهور المتسرع المستعد لارتكاب أي حماقة دفاعاً عن شقيقته؛ ومحمد شاهين العازب المعجب بسلمى الحسناء الفاتنة، والثنائي الرائع سلوى محمد علي وبيومي فؤاد، وحوارهما الذي يبدو هادئاً راقياً في دفاعهما عن ابنهما في البداية قبل أن يكشف الزوج عن وجهه الذكوري المتسلط حين يصرخ في وجه زوجته ويمنعها من الكلام فيحرجها أمام الآخرين.. مجدي الذي يؤديه خالد كمال هو رمز للصديق المحب الوفي لأصدقائه، والذي يلصقون فيه منذ الطفولة كل تهمة يريدون الهروب منها أمام أهلهم، فصار سيئ السمعة تخاف والدة شريف الحديث معه لأنه «مدمن» في نظرها، بينما تبيّن لهم الأحداث أنه شاب نبيل المشاعر طيب القلب.. كذلك الممثلة دنيا سامي أدت دور الخادمة بتميز شديد، ومنحها الحلفاوي مساحة جيدة كافية لإظهار موهبتها وقدراتها.. أما أمينة خليل ومحمد ممدوح، فهما الثنائي الناجح، كل منهما يؤدي كأنه يعيش الحالة بالفعل بلا افتعال، ولا تمثيل، ولا تكلّف، ولا تصنّع.. نصدقهما في كل إطلالة لهما، وفي هذا الفيلم سجّلا نجاحاً إضافياً يليق بموهبتهما.

ضيوف شرف

الأزياء بسيطة، خصوصاً أمينة خليل، أو داليا التي ظهرت بلا ماكياج، أو بماكياج خفيف لا يمكن ملاحظته، وروب فوق ملابسها التي ترتديها أي فتاة أو امرأة في بيتها، مع جوارب ونعال في قدميها.. عكس صديقتها سلمى الآتية بكامل أناقتها لزيارة صديقتها وفوجئت بالمشكلة.

أضاف وليد الحلفاوي إلى العمل ضيوف شرف لم يدخلوا المنزل، بل حصر العائلتين داخله مع وجود ثلاثة أصدقاء مقربين جداً، والطفل أدهم النائم معظم الوقت والذي يتم الحديث بالنيابة عنه وتقرير مصيره في حال تم الطلاق.. ضيوف الشرف يظهرون من الخارج ويختفون، عمر مصطفى متولي الذي يأتي باعتباره الضابط الذي تم استدعاؤه ببلاغ من الجيران ليعرف سبب ازعاج شريف وزوجته لجيرانهما، لكنه لا يتمكن من الدخول بسبب عطل في باب الشقة الحديدي، فينصحهم بالاتصال بحدّاد ليتمكنوا من الخروج، علاء زينهم الجار المتحدث باسم كل سكان البناية والمنزعج مما يحصل في الطابق الأخير، أي شقة شريف؛ خالد الصاوي يطل من خلال اتصال والد داليا به «فيديو كول» عبر الآيباد ليبدي رأيه كونه محامي الأسرة وصديقها المقرّب جلال نمر، يقابله اتصال من والد شريف بالمحامي سراج الذي يتيح للفنان لطفي لبيب الظهور أيضاً فنشهد مرافعة ومواجهة بين المحاميين من آيباد إلى آيباد.

ضحك من القلب

الفيلم كوميديا راقية الضحك فيها من القلب بلا افتعال، وبلا اسخفاف، ودراما اجتماعية تعالج قضايا عائلية حقيقية ومهمة، تشدك بتفاصيلها، والحوار مكتوب بإتقان ليلمس كل مشاهد فيشعر بأنه هو صاحب هذه الجملة، وهو صاحب هذه القضية، وبأنه معني مباشرة بكل ما يحصل على الشاشة.. تجربة سينمائية ناجحة ومميزة تجعلنا ننتظر المزيد من التميز من صاحبها وليد الحلفاوي الذي استطاع أن يجعل من نفسه ومن كل مشاركيه في العمل أبطالاً يستحقون التقدير.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top