إيمان الهاشمي
أتأمل يمناي تحتضن جسد قلمي المنهك لعلها تستخرج الجُمَل من رأسه المدبب والمقلوب رأساً على عقب فوق وجه ورقتي الملطخة بلون دمه الأزرق، لأتأكد حينها أن ما نراه أو نفهمه مما نقرأ ليس أكثر من انعكاس خارجي لما نفكر أو نشعر به من الداخل، وأن ما يُكتب بسهولة قد يُفهم بسهولة، لكنه قد يرحل بسهولة أكثر، وأن ما يُكتب بصعوبة قد يُفهم بصعوبة، لكنه قد يرحل بصعوبة أكبر، ومع أن هذه النظرية ليست مُطلَقة أو من الضرورات، إلا أنها أثبتت صحتها في كثير من الأوقات، تماماً كما في البحوث العلمية والحوارات الفلسفية وعلوم النفس التطبيقية والدراسات التفصيلية وأخيراً القرارات السياسية التي لا أفهم منها سوى كلمة (سلام) دون أن أراه.
إن الخطر الحقيقي يكمن في عدم التغيير والخوف من أن نكون (مختلفين) دون تبادل حرفي التاء والخاء فنصبح (متخلفين)، ولذلك على الإنسان أن يراقب مستقبله من الأمام، فإن (فلت) زمامه (تلف) أمامه، فمثلاً (كامي سان سانز) النابغة الفرنسي، عاشق الشرق واللحن الهندسي، أفضل عازف أورغان في العالم، كما وصفه (ليست) الملحن الحالم، ترعرع مع والدته الأرملة، وتحت ظل عمته المتأملة، في أن يصبح موزارت عصره، فعرّفته بالبيانو ليبني قصره، وليقدم أول عرض في الخامسة من عمره، فتعجّب الجمهور من أمره، ونبغ في علم الجيولوجيا والنبات، وكذلك علم الفراشات والرياضيات، وحصد العديد من الجوائز، لكنهم لم يعتبروه الفائز، حيث عاداه وخاصمه الكثير، بسبب أسلوبه المستفز والمثير.
قرر الزواج في عمر الأربعين تقريباً، فاقترن بزهرة في ال19 ربيعاً، لكن شتاء حياتهما الباردة، هطل بمأساة مُطارِدة، فلم يهربا من موت طفلهما الأول، ولم يتفاديا دفن طفلهما الثاني، وهكذا أصبحت أحضان الأم ثكلى، وباتت نبضات الأب ركلة، ما أدى إلى انفصالهما دون طلاق، فلم يتزوج بعدها على الإطلاق، لكنه أصبح أول مَن سجّل مؤلفاته في أسطوانة، وأول مَن خصص للأفلام بعضاً من ألحانه، والمضحك أنه لحّن (كرنفال الحيوانات) من باب السخرية، لكنها باتت أهم مقطوعاته السحرية، إضافة إلى أوبرا (شمشون ودليلة)، الممزوجة بأنغام عربية وأصيلة، وكذلك رائعته (البجعة) التي عُزفت بعد مماته، ولعلها سُميت ب(البجعة الميتة) إكراماً لحياته، هكذا رحلت روحه وهو على أرض الجزائر، ثم عاش جثمانه في فرنسا تحت المقابر.