الاستدامة الثقافية ركيزة لرؤية دبي لربط الأجيال بموروثها



  • منى فيصل القرق: الثقافة أحد أعمدة المجتمعات المتحضّرة والمزدهرة
  • بدر آل علي: حماية وترميم المناطق التراثية لربط المواطن بثقافته
  • متحف الشندغة أكبر متحف تراثي في الدولة يضم 22 جناحاً
  • متحف الاتحاد سجل يحفظ تفاصيل ميلاد دولة الاتحاد للأجيال
  • مكتبة محمد بن راشد صرح ثقافي ووجهة للمثقفين والمبدعين

يحظى ملف الاستدامة في إمارة دبي منذ عقود برعاية واهتمام كبيرين من القيادة الرشيدة على مختلف الصعد الاقتصادية والبيئية والمجتمعية، بينما تظل حماية الثقافة وتطويرها غاية ووسيلة للإسهام المباشر في تحقيق جزء كبير من أهداف التنمية المستدامة، ليس فقط في دبي، ولكن على مستوى العالم، كذلك تسهم الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية المستدامة في المحافظة على التراث الثقافي، وفي تغذية القدرات الابتكارية للمجتمعات، ما يجعل الاهتمام بالاستدامة الثقافية ضمن الأهداف الرئيسية لأي استراتيجية ناجحة للتنمية الشاملة.

يشكل الاهتمام بالمباني التاريخية والمناطق التراثية من خلال عمليات الصيانة والترميم والحماية، ركناً أصيلاً من أركان الاستدامة الثقافية، لما له من أثر في المحافظة على أصول مهمة؛ تمثل جانباً مهماً من الموروث الثقافي لأي مجتمع؛ حيث جاء الاهتمام بحماية تلك الأصول كمحور مهم من محاور «خطة دبي الحضرية 2040» التي أطلقها صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، لتقدم خريطة متكاملة، لتحقيق تنمية عمرانية مستدامة في دبي، محورها الإنسان، وهدفها الارتقاء بجودة الحياة، وتعزيز التنافسية العالمية للإمارة، وتسهم في توفير خيارات متعددة للمواطنين والمقيمين والزوار خلال العشرين عاماً المقبلة.

وحول أهمية المحافظة على المباني التاريخية، وما تستدعيه من عناية لضمان صونها للأجيال القادمة، قالت منى فيصل القرق، المدير التنفيذي لقطاع الثقافة والتراث في «دبي للثقافة»: «الثقافة أحد أعمدة بناء المجتمعات المتحضّرة والمزدهرة، ولطالما تميزت الثقافة الإماراتية بتنوع روافدها وثراء مضمونها، وهو الأمر الذي لا نتوانى في الحفاظ عليه للأجيال القادمة عبر مشاريع ومبادرات نوعية نوحد فيها الجهود مع مختلف الجهات المعنية؛ لضمان استدامة إرثنا الثقافي والحضاري وتأصيل جذوره في المجتمع».

وأضافت: «لدينا من الشواهد التاريخية ما يدعم استدامة تراثنا الثقافي وينقل للأجيال المتعاقبة صورة لأصول تلك الثقافة التي نبعت من قلب الصحراء، وعلى ضفاف مياه الخليج، ويعمق انتماء تلك الأجيال لوطنها وموروثها الحضاري، ودبي حريصة على توفير كافة المقومات التي تضمن استدامة ثقافتنا الإماراتية الأصيلة، تأكيداً لمكانتها عاصمةً ثقافيةً لها مكانتها وثقلها على خريطة الإبداع العالمية».

حماية التراث

جاءت خطة دبي الحضرية 2040 متضمنة إلى جانب التركيز على الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية والبنية التحتية، وضمن أهدافها الرئيسية، محور حماية التراث والآثار والمناطق الثقافية والتاريخية، وحفظها للأجيال القادمة؛ ليستلهموا منها الأصالة والقيَّم السامية التي لا نزال ننهل من معينها حتى اليوم.

ومن منطلق المحافظة على الإرث الثقافي، والنهوض به، حافظت دبي على ملامحها التراثية العربية الأصيلة عبر الاهتمام بالمباني القديمة، وإعادة ترميمها لتكون شاهد عيان على ما قدمه أهل دبي في الماضي، وما يقدمه الأبناء في الحاضر، وعلى الرغم من تسارع وتيرة التطور لمواكبة العصر الحديث، فقد نجحت دبي في حجز مقعدٍ لها ضمن مصاف الدول المتقدمة الساعية إلى التطور في كل مناحي الحياة، إلا أنها تمسكت بجذورها الضاربة في القدم، وهويتها العربية الأصيلة عبر الاهتمام بثقافة وإرث الآباء؛ وذلك في عدة مبادرات ومشاريع تهدف إلى المحافظة على الهوية الوطنية برؤية ثاقبة مزجت الماضي مع الحاضر في تناغم تامن شَكّل لوحة فريدة من نوعها.

«ثقافتنا هي هوية أجيالنا وعمق لتاريخنا ورسالة إلى العالم، نريد أن ننقلها بطرق أكثر إبداعاً، ثقافتنا الإماراتية تحمل روح التسامح

وتدعو إلى الانفتاح على الآخر، وتستمد قوتها وروحها الفريدة من الحضارة العربية الإسلامية».. كانت تلك كلمات صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، عند إطلاق سموّه صندوق التنمية الثقافية في دولة الإمارات، موجهاً بضرورة المحافظة على ثقافة وطابع الدولة الأصيل، والعمل على إبراز الثقافة المحلية وصونها، لتكون وجهاً من أوجه الاستدامة الثقافية التي تهدف إلى حفظ الهوية وإثرائها ضمن سياق مجتمعي شامل.

قلب دبي النابض بالتاريخ

كان لبلدية دبي خطوات مهمة من خلال ترميم وحماية المباني التاريخية في دبي، وفق أعلى المعايير المتبعة عالمياً في صيانة الأبنية العتيقة بأدواتٍ عصرية تحفظ تفاصيلها بدقة متناهية، لتحافظ على ديمومتها لتصل إلى الأجيال القادمة.

وقال المهندس بدر آل علي، مدير إدارة التراث العمراني والآثار بالإنابة في بلدية دبي: «يوجد في دبي أكثر من 700 مبنى تاريخي، وقامت البلدية بتنفيذ مشاريع، لترميم جانب كبير من المباني التاريخية في دبي؛ وذلك في إطار الحرص على المحافظة على هوية المدينة، وحماية موروثها الحضاري، مع المحافظة على الطبيعة التراثية لتلك الأبنية، وصون قيمتها التاريخية.

وأوضح أن مشروع تطوير المناطق التراثية، قام على عدد من المرتكزات المهمة، وفي مقدمتها تعميق ارتباط المواطن الإماراتي بتراثه وجذوره التاريخية، فضلاً عن أثر المشروع في ترسيخ مكانة دبي مقصداً سياحياً يفد إليه السياح من مختلف أنحاء العالم؛ إذ يشكل العنصر التراثي أحد مقومات الجذب السياحي في الإمارة.

ويعد حي الفهيدي التاريخي، نافذة مهمة، للإطلال على تاريخ دبي؛ إذ يوفر للزائر فرصة معايشة الحياة التقليدية وصورتها السائدة في الإمارة منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى سبعينات القرن العشرين، من خلال طابعه المعماري المميز بأبراج الهواء الشامخة، ومواد البناء التقليدية والتي يعكس طابعها العمراني وتصميم أبنيتها، تقاليد وسمات مجتمع دبي في تلك الآونة.

وبين حيّ الفهيدي والشندغة؛ وهما منطقتان تشكلان منارة ثقافية نابضة بالحياة، أنجزت بلدية دبي ما يزيد على 400 مشروع من مشاريع ترميم وتأهيل المباني التاريخية، انطلاقاً من أهمية المحافظة على التراث، وما تركه الأجداد بكل ما يعبّر عنه من معانٍ تاريخية، وقيم اجتماعية، خاصة المناطق التراثية التي ما زالت تشهد نشاطاً تجارياً كبيراً، ويزيد عددها على 220 مبنى.

ويُعد متحف الشندغة، الذي افتتحه صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في مارس من عام 2023، بعد إنجاز عمليات تطويره، أكبر متحف تراثي في دولة الإمارات؛ حيث يضم 22 جناحاً تحتضن أكثر من 80 بيتاً تاريخياً متنوعاً، يعبر كل منها عن تطور دبي ودولة الإمارات. ويتيح المتحف فرصة اكتشاف تاريخ إمارة دبي وثقافتها وتراثها العريق عبر مجموعة من المقتنيات والمعروضات والأفلام والصور الفوتوغرافية القديمة بطريقة تفاعلية مبتكرة. وشارك في بناء المتحف، الذي يستهدف نحو مليون زائر بحلول 2025، أكثر من 100 شخص من أفراد المجتمع، قدموا مقتنياتهم وقصصهم وذكرياتهم، التي تبحر في الذاكرة المحلية، مشكّلة حجر الزاوية في حي دبي التاريخي النابض بالحياة.

متحف الاتحاد

يعد متحف الاتحاد أحد أهم الإنجازات التي تؤرخ لمرحلة بالغة الأهمية من تاريخ دولة الإمارات وصولاً إلى إعلان دولة الاتحاد في عام 1971، وما سبقها وما صاحب سنواتها الأولى من تطورات لا سيما خلال الفترة ما بين 1968 و1974؛ إذ يشكل المتحف سجلاً مستداماً يحفظ لدولة الإمارات تفاصيل إنجاز تاريخي يحصد أبناء الإمارات ثماره حتى الآن.

وتضم معروضات المتحف مواد ووثائق تتعلق بأحداث تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة، وتسهم في توثيق رحلة الاتحاد عبر الإمارات السبع، ليظل بذلك المتحف سجلاً يحفظ بين دفتيه تفاصيل ميلاد دولة الاتحاد للأجيال يستلهمون منه قيم الانتماء للوطن والتفاني في رفعته.

مبادرات ثقافية مستدامة

لم يقف اهتمام دبي عند حد ترميم وتطوير المتاحف والمباني التاريخية والأثرية في الإمارة؛ بل واكب ذلك رؤية ثقافية جديدة، تضم عدة مبادرات استراتيجية ذات طابع مستدام، تسهم في تكريس مكانة دبي وسمعتها كصاحبة ثقافة رائدة، وكمركز حضاري يستفيد من الثراء الثقافي والإنساني النابع من التنوع الكبير الذي يميز مجتمع الإمارة بكل ما تضمه من ثقافات عديدة ومتنوعة، وبما يكرّس إسهاماتها كمدينة حاضنة للموهوبين والمبدعين والمبتكرين من كل أنحاء العالم، وكبيئة إبداعية تتوفر فيها كل عناصر وأدوات التمكين الاقتصادي والاجتماعي والمعرفي والتقني، وحلقة وصل فاعلة للتلاقي الفكري والإنساني، بما يعكس منظومتها القيميّة القائمة على التسامح والتعايش والإخاء والانفتاح وقبول الآخر، ويرسّخ مكانتها مركزاً ثقافياً رائداً؛ وذلك بموازاة مكانتها كعاصمة المال والأعمال في المنطقة، وكمقصد سياحي رئيسي هو الأول على مستوى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وكذلك كمدينة ذات جاذبية للعيش والاستقرار فيها.

حراك ثقافي

تسعى رؤية دبي الثقافية الجديدة التي أطلقتها وتشرف على تنفيذها هيئة الثقافة والفنون في دبي، بتوجيهات مباشرة من سموّ الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم، رئيسة الهيئة، إلى تحقيق ثلاثة مستهدفات استراتيجية رئيسية؛ تشمل: خلق حراك ثقافي فعّال لتعزيز مكانة دبي على خريطة العالم الثقافية، وجعل دبي الوجهة الأولى للمواهب الثقافية والإبداعية والفنية والأدبية محلياً وعربياً وعالمياً، ودعم نمو الصناعات الإبداعية في الإمارة لتعزيز العائد الاقتصادي الثقافي.

كما تعنى الهيئة بالتراث الثقافي إلى جانب الفنون والتصميم والأدب من خلال إقامة المعارض الفنية التراثية في كل أنحاء المدينة.

وتُشَكّل الاستدامة الثقافية في دبي ودولة الإمارات ركناً أساسياً في نهضة المجتمع من خلال الاهتمام بالجانب الثقافي والمعرفي، ليصبح أسلوب حياة من خلال تبني الصناعة الإبداعية ورعاية المثقفين والمبدعين من أبناء الوطن الذين يسعون إلى إبراز دور الثقافة الإماراتية وتراث الأجداد من خلال برامج تخاطب النشء، وتتفهم عقليته التي تأثرت بالتكنولوجيا الحديثة، وهو ما تسعى إليه مكتبة محمد بن راشد آل مكتوم، التي تشكّل صرحاً ثقافياً متميّزاً في دبي، من خلال إطلاقها مبادرات ثقافية متنوعة تتناسب مع مختلف الأعمار والمستويات الثقافية.

وجهة دبي الثقافية

يرى أهل الفكر والثقافة أن مكتبة محمد بن راشد تعد ملاذاً للباحثين عن المعرفة بين دفتيّ كتاب، وموقعاً مهماً لعشاق الثقافة بكل أوجهها، بما تضمه من أمسيات شعرية وجلسات لمناقشة أحدث الإصدارات المطبوعة، والورش التعليمية، والعروض الثقافية التي تقام على خشبة المسرح وفعاليات للأطفال، وما تضمه من مخطوطات قديمة وإصدارات نادرة تأخذ المتلقي في رحلة بين الأفكار والخبرات التي تضعها المكتبة بين أيدي طالبي النهل من مصادر العلوم والثقافة والفنون.

كما تحفظ المكتبة بين جنباتها عناوين، وكتباً مستوحاة من التراث الإماراتي العريق، لأسماء مؤرخين وشعراء وكتَّاب كرّسوا حياتهم لتدوين وجمع التراث الشفهي والأدبي الإماراتي، ليبدو ذلك وكأنه نظام محاكاة افتراضي جمع الحاضر والماضي في قاعة المكتبة.

إن رحلة الثقافة في دبي هي مسيرة طويلة مستمرة، وتحظى باهتمام كبير؛ لضمان استدامة مكنونها الثري، انطلاقاً من تلك الأهمية التي يحملها الإرث الثقافي العريق، ليصل إلى أجيال المستقبل الذين سيكونون مسؤولين عن المحافظة على هوية الوطن وثقافته ضمن مشاريع مجتمعية شاملة تُعقد عليها الآمال، لتتسلم تلك الأجيال الكنز المعرفي والثقافي الذي لا يُقدر بثمن، تجسيداً لمفهوم الاستدامة كأسلوب حياة لكل أبناء الوطن الحريصين على صون إرثهم الثقافي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top