النمو الأميركي القوي يُشعل مخاوف التضخم ويُلقي بظلاله على مستقبل السياسة النقدية
بدأ النمو الاقتصادي الأميركي الذي يواصل التحرك فوق إمكاناته يبرز كدعامة رئيسية للتوسع العالمي المستمر، لكن تداعيات استمرار ارتفاع التضخم والسياسة النقدية المشددة في أكبر اقتصاد في العالم يمكن أن تشكل مخاطر جديدة على «الهبوط الناعم» المنشود حول العالم.
ومع تجمع القادة الماليين العالميين في واشنطن هذا الأسبوع لحضور اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين، قد تركز التوقعات بشأن الأوضاع الاقتصادية العالمية قصيرة الأجل على ما إذا كان النجاح الأميركي المفاجئ مدفوعاً بقوى بناءة مثل زيادة عرض العمالة والإنتاجية أو بعجز مالي ضخم يستمر في تأجيج الطلب والتضخم المحتمل، وفق «رويترز».
وتدعم إحدى الإجابات ما أطلق عليه رئيس الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو أوستن غولسبى «المسار الذهبي»، حيث يتعايش النمو القوي وانخفاض التضخم، ليس فقط في الولايات المتحدة ولكن أيضاً في البلدان الأخرى المرتبطة بها من خلال أسعار الصرف وقنوات التجارة التي حافظت على الواردات بالقرب من مستويات قياسية. أما المقلب الآخر فيشير إلى طريق وعر في المستقبل إذا خلص الاحتياطي الفيدرالي إلى أن الطلب الأميركي لا يزال قوياً جداً بحيث لا يمكن أن ينخفض التضخم، وقرر أنه يجب عليه تأجيل تخفيضات أسعار الفائدة المتوقعة أو – في الحالات القصوى – اللجوء إلى زيادات أسعار الفائدة التي كان قد استبعدها تماماً.
ولم تكن البيانات الأخيرة مفيدة، حيث ظل التضخم متوقفاً عن الارتفاع بشكل جيد فوق هدف «المركزي» البالغ 2 في المائة للربع الأول من العام، ولا يزال الناتج المحلي الإجمالي يتوسع بأكثر من الإمكانات عند 2.4 في المائة لفترة يناير (كانون الثاني) -مارس (آذار)، وفقاً لمؤشر «الاحتياطي» في أتلانتا، حيث يتحوط مسؤولو «الاحتياطي الفيدرالي» بشأن موعد بدء خفض أسعار الفائدة.
وقال رئيس «الاحتياطي الفيدرالي» في ريتشموند، توماس باركين، الأسبوع الماضي: «لم نصل بعد إلى المكان الذي نريده بشأن التضخم»، حيث اختتم فترة سبعة أيام أظهرت فيها بيانات الوظائف الأميركية أن الشركات وظفت 303 آلاف عامل إضافي في مارس، أي ضعفين إلى ثلاثة أضعاف وتيرة التوظيف غير التضخمية المقدرة، وبيانات التضخم الجديدة عكست بشكل أكبر الاتجاهات التي اعتمد عليها صانعو السياسة في «الاحتياطي الفيدرالي» العام الماضي للتوجه نحو خفض أسعار الفائدة في عام 2024. كما تشير البيانات إلى توقعات التضخم التي يراقبها «الفيدرالي» من كثب إلى توقف التقدم.
وتم تسجيل البيانات بسرعة في الأسواق التي خفضت توقعات تخفيف السياسة النقدية من قبل «الاحتياطي الفيدرالي»، وهو أمر لا شك أن المسؤولين العالميين قد لاحظوه قبل المناقشات هذا الأسبوع، والتي قد تركز على ما إذا كانت نوبة التضخم والسياسة النقدية المشددة التي أعقبت جائحة «كوفيد -19» في العالم قد انتهت، أو ببساطة معلقة حتى يتضح ما يحدث في الولايات المتحدة.
المراقبة من الخارج
سيتم إصدار ملخص صندوق النقد الدولي لأحدث آفاق الاقتصاد العالمي للاقتصاد العالمي يوم الثلاثاء، لكن البيانات الأميركية الأخيرة كان لها بالفعل تداعيات.
وعلى الرغم من أن «المركزي الأوروبي» أبقى على توقعات خفض أسعار الفائدة والتضخم سليمة في الوقت الحالي، فإن المؤتمر الصحافي لرئيسة «المركزي الأوروبي» كريستين لاغارد يوم الخميس سيطر عليه أسئلة حول مدى تباعد السياسة النقدية لمنطقة اليورو عن سياسة «الاحتياطي الفيدرالي» إذا استمر التضخم الأميركي. وكان محافظو المصارف المركزية الآخرين أكثر صراحة في أن مكافحة التضخم الموسعة في الولايات المتحدة ستقيد ما يمكنهم فعله.
ولم يقتصر الأمر على ما إذا كان «الاحتياطي الفيدرالي» يستطيع اتخاذ إجراء في يونيو (حزيران) أو بعد قليل، بل إن السياسة النقدية بأكملها لمدة عام ربما تكون موضع تساؤل، كما صرح بير يانسون، نائب محافظ مصرف السويد المركزي، للصحافيين، مضيفاً أنه «ليس هناك احتمال صفري» بأن يضطر «الاحتياطي الفيدرالي» إلى مناقشة ما إذا كانت هناك حاجة إلى مزيد من الارتفاعات في تكاليف الاقتراض.
وهذا ليس خط الأساس. فقد أظهرت الجولة الأخيرة من التوقعات الاقتصادية لمجلس «الاحتياطي الفيدرالي»، التي صدرت في مارس، أن أياً من صانعي السياسة لم يتوقع الحاجة إلى تحريك سعر الفائدة القياسي للمركزي الأميركي لليلة واحدة فوق النطاق الحالي الذي يتراوح بين 5.25 و5.50 في المائة، حيث كان منذ يوليو (تموز).
ولكن كان هناك أيضاً خلاف يتسلل إلى الداخل، حيث أظهرت محاضر اجتماع السياسة الذي عقده «الاحتياطي الفيدرالي» في 19-20 مارس أن «بعض المشاركين» قالوا إن الظروف المالية العامة قد لا تكون صعبة كما هو متوقع، «مما قد يعزز الزخم للطلب الكلي ويضع ضغطاً تصاعدياً على التضخم»، وهو نوع من الديناميكية التي يمكن أن يجادل برفع أسعار الفائدة في حالة استمراره.
وأثار النمو القوي في مواجهة أعلى سعر للسياسة في ربع قرن سلسلة من الأسئلة بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي – وبالتالي بالنسبة للاقتصاد العالمي – حول ما إذا كان تأثير السياسة النقدية بطيئاً في الظهور، مع حدوث تراجع حاد في الولايات المتحدة، أو ما إذا كانت جوانب من الاقتصاد مثل مشاركة القوى العاملة والإنتاجية قد تغيرت للأفضل.
مخاطر مرتفعة
رفع مكتب الموازنة في الكونغرس الأميركي مؤخراً توقعاته لتحقيق النمو الاقتصادي المحتمل بناءً على زيادة الهجرة وإنتاجية العمالة، وهي عوامل تسمح للاقتصاد بالنمو دون التسبب في التضخم.
ورغم أن مسؤولي «الاحتياطي الفيدرالي» أقروا بأن كلا العاملين ساعدا في خفض وتيرة زيادات الأسعار في العام الماضي بمعدل سريع إلى حد مدهش – مما مهد الطريق لما أطلق عليه البعض «الانكماش التام» – فمن غير الواضح مدى عمق هذا التوجه.
وإذا تبيّن أن الاقتصاد لا يزال قوياً جداً أو أن الظروف المالية غير صارمة بما يكفي لعودة كاملة للتضخم إلى هدف «الاحتياطي الفيدرالي»، فإن التباعد الأميركي الذي يساعد الآن على دفع العالم نحو الأعلى قد يتحول إلى ضغط مالي.
وقالت الأستاذة في جامعة هارفارد وزميلة بارزة غير مقيمة في معهد «بيترسون» للاقتصاد الدولي، كارين دينان: «أعتقد أن (الاحتياطي الفيدرالي) في وضعية الترقب والمراقبة»، مع احتمال خفض سعر الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية فقط هذا العام.
وفي حين تتوقع أن تؤدي السياسة الأكثر صرامة إلى «كبح» الطلب وإبطاء الاقتصاد الأميركي، لا يمكن تجاهل النتائج الأسوأ طالما استمرت مشكلة التضخم.
وقالت: «إنها حقاً توقعات بـ(هبوط ناعم)… لكنني أعتقد أن مخاطر الركود مرتفعة إلى حد ما في الولايات المتحدة ودول أخرى».